كيف يمكن للهرمونات أن تتحكّم بعقولنا؟

تلعب الهرمونات دوراً حيوياً في الحفاظ على عمل أجسامنا بشكل سليم، لكنها قد تحدث أيضاً تأثيراً قويّاً – وأحياناً سلبياً – على مزاجنا وصحتنا النفسية.

نحبّ جميعاً أن نعتقد أن مشاعرنا وأحاسيسنا تحت سيطرتنا، لكن هل هذا صحيح فعلاً؟

يعرف العلماء منذ زمنٍ طويل أن هناك رسائل كيميائية تُسمّى الناقلات العصبية تؤثّر تأثيراً هائلاً في الدماغ. ومع ذلك، كلّما تعمّق العلم أكثر، اكتشف الباحثون أن الهرمونات بدورها يمكن أن تعبث بعقولنا بطرق غير متوقّعة.

واليوم، يحاول بعض العلماء توظيف هذه المعرفة لإيجاد علاجات جديدة لحالاتٍ مثل الاكتئاب والقلق.

تقول نفيسة إسماعيل، أستاذة علم النفس في جامعة أوتاوا في كندا: “الهرمونات تؤثر فعلاً على مزاجنا ومشاعرنا. فهي تقوم بذلك من خلال تفاعلها مع الناقلات العصبية التي تنتج وتفرز في مناطق محددة من الدماغ، وكذلك عبر تأثيرها في عمليات مثل موت الخلايا أو تكوّن الخلايا العصبية الجديدة، أي عندما تتكوّن أو تولد عصبونات جديدة”.

إن انتشار الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب، القلق، واضطراب ما بعد الصدمة يزداد خلال التحوّلات الهرمونية الكبرى، وهذا ينطبق بشكل خاص على النساء.

ففي مرحلة الطفولة، تكون نسب الاكتئاب متقاربة بين الفتيان والفتيات، لكن الدراسات تظهر أنه مع بداية المراهقة تصبح الفتيات أكثر عرضة للاكتئاب بمقدار الضعف مقارنة بالفتيان، وهو فارق يستمرّ على امتداد الحياة.

فهل الهرمونات هي المسؤولة؟

ليس من المفاجئ أن نعلم أنّ الهرمونات الجنسية لدى النساء تمارس تأثيراً قوياً على المزاج.

ويقول الخبراء إن بعض النساء قد يصبن بما يعرف باضطراب ما قبل الطمث الاكتئابي، وهو اضطراب حادّ في المزاج مرتبط بالهرمونات، يتميّز بتقلّباتٍ عاطفية شديدة وقلق واكتئاب وأحياناً أفكار انتحارية خلال الأسبوعين السابقين للحيض.

تقول ليزا هانتسو، أستاذة الطب النفسي وعلوم السلوك في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز (الولايات المتحدة): “بالنسبة لكثير من النساء المصابات باضطراب ما قبل الطمث الاكتئابي، يشكّل هذا الأمر معاناة مزمنة تتكرّر كل شهر، ويمكن أن تؤثر بعمق على حياتهن اليومية”.

فور الولادة مباشرةً، تشهد النساء انخفاضاً حاداً ومفاجئاً في مستويات هرموني البروجسترون والإستروجين.

وعلى العكس من ذلك، فإن المستويات المرتفعة من الإستروجين قبل الإباضة مباشرةً ترتبط عادةً بمشاعر الراحة والسعادة، في حين يُعرف الألوبريغنانولون – وهو ناتج عن تحلّل هرمون البروجسترون- بتأثيره المهدّئ.

“إذا أعطيت شخصاً حقنة من الألوبريغنانولون، فسوف يشعر بالاسترخاء”، تقول البروفسورة هانتسو.

ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، تصاب نحو 13 بالمئة من النساء اللواتي أنجبن حديثاً بالاكتئاب بعد الولادة.

ولكن لماذا يحدث ذلك؟

فور الولادة، تمرّ النساء بانخفاضٍ حادّ في هرموني البروجسترون والإستروجين، بينما يشير الباحثون إلى أنّ النساء في مرحلة ما قبل انقطاع الطمث قد يعانين أيضاً من تقلّباتٍ كبيرة ومفاجئة في الهرمونات المبيضيّة.

“الأمر لا يتعلق على الأرجح بمستوى الهرمونات بحد ذاته، بل بفترات الانتقال التي يتقلّب فيها المستوى من مرتفع إلى منخفض أو العكس.”

“بعض الأشخاص أكثر حساسية تجاه هذه التقلّبات، بينما تمرّ أخريات بمرحلة انقطاع الطمث بسلام تام من دون أي أعراض”.

ومع ذلك، تشير بعض الأدلة إلى أنّ حتى هذا الانخفاض الطفيف قد يكون كافياً لإحداث تغيّرات في المزاج لدى بعض الرجال، وليس جميعهم.

تقول البروفسورة نفيسة إسماعيل: “نلاحظ بالفعل تغيّراتٍ في المزاج لدى بعض الرجال مع تغيّر مستويات التستوستيرون خلال مراحل الحياة، وهذا موضوع لا ينال ما يستحقه من اهتمام”.

إحدى الطرق التي يمكن أن تؤثر بها الهرمونات الجنسية على المزاج هي من خلال زيادة مستويات الناقلات العصبية مثل السيروتونين والدوبامين في الدماغ.

ومن المعروف منذ زمنٍ طويل أن انخفاض مستويات السيروتونين يرتبط بالاكتئاب، ولهذا تعمل معظم مضادات الاكتئاب الحديثة على رفع مستوى هذه المادة الكيميائية الدماغية.

توجد أدلّة تشير إلى أن بعض أنواع الإستروجين يمكن أن تجعل مستقبلات السيروتونين أكثر استجابة، كما تزيد من عدد مستقبلات الدوبامين في الدماغ.

وتفترض نظرية أخرى أن الإستروجين يحمي الخلايا العصبية من التلف، بل ويمكنه أيضاً تحفيز نموّ خلايا عصبية جديدة في منطقة من الدماغ تُعرف باسم الحُصين (في الفصّ الصدغي الأوسط من الدماغ)، وهي منطقة تلعب دوراً أساسياً في الذاكرة والمشاعر.

وفي المقابل، فإن مضادات الاكتئاب وبعض المخدرات ذات التأثيرات الإيجابية على المزاج مثل السيلوسايبن – وهي المادة الموجودة في ما يعرف بـ”الفطر السحري” – تؤدي إلى نموّ خلايا عصبية جديدة في هذه المنطقة.

تقول البروفسورة نفيسة إسماعيل: “الإستروجين يتمتّع بخصائص عصبيّة واقية، لذا فهو يُعزّز عملية تكوّن الخلايا العصبية الجديدة.”

“لهذا السبب، عندما تدخل النساء في مرحلة انقطاع الطمث، نلاحظ نوعاً من انكماش التشعّبات العصبية – أي الفروع الدقيقة المنبثقة من الخلايا العصبية – التي كانت أكثر نشاطاً في مراحل الحياة السابقة.”

ولهذا السبب، كثيراً ما تعاني النساء خلال فترة انقطاع الطمث من ضباب ذهني ومشكلاتٍ في الذاكرة والتركيز.

قد يؤدي فقدان الخلايا العصبية في منطقة الحُصين إلى عواقب مترتّبة تمسّ نظاماً هرمونياً آخر يعرف باسم محور الوطاء – الغدة النخامية – الكظرية (HPA axis)، وهو النظام المسؤول عن تنظيم استجابة الجسم للتوتّر.

فعندما نشعر بالقلق، يقوم تحت المهاد (الهيبوثالاموس) – وهي منطقة في الدماغ تتحكّم في إفراز معظم هرمونات الجسم – بإرسال إشارة إلى الغدة النخامية لتفرز هرموناً يُسمّى الهرمون الموجِّه لقشرة الغدة الكظرية (ACTH).

بعد ذلك، يقوم هذا الهرمون بتحفيز الغدد الكظرية على إفراز الكورتيزول، وهو هرمون التوتّر الرئيسي في الجسم.

ويعمل الكورتيزول على تحفيز الجسم لإطلاق السكر في مجرى الدم، مانحاً الدماغ والجسم الطاقة اللازمة للتصرّف في حالات الطوارئ.

تقول البروفسورة ليزا هانتسو: “يفعَّل محور HPA عندما يتعرّض الشخص للتوتّر، وعلى المدى القصير يكون ذلك مفيداً لأنه يساعد الجسم على التعامل مع الضغط، لكن على المدى الطويل يمكن أن يكون مدمّراً”.

 

المصدر: BBC