ما الذي يمكن أن يجمع “الديناميت” وأنابيب النفط وموقد الغاز؟ كل ذلك وأكثر اجتمع في سجل رجل واحد، إنجازاته اختصرت الكثير من الطرق وحلت العديد من المشكلات بما في ذلك بـ”التفجير”.
في عالم القرن التاسع عشر، شكّل اسم ألفريد نوبل علامة فارقة لا تزال آثارها ملموسة حتى يومنا هذا. لم يكن هذا الكيميائي والمهندس والمخترع السويدي مجرد صانع للمتفجرات، بل كان عالما غيّر وجه الصناعة والنقل والبناء من خلال سلسلة من الابتكارات الثورية التي بلغت ذروتها باكتشافه الأكثر شهرة، الديناميت.
كانت البداية الهامة مرتبطة بمادة شديدة الخطورة اسمها النتروجليسرين. كانت على الرغم من قوتها المتفجرة الهائلة، غير مستقرة ولا يمكن التنبؤ بتبعاتها، ما جعل نقلها وتخزينها واستخدامها مغامرة محفوفة بالمخاطر، تهدد حياة العمال وتعرقل المشاريع الكبرى.
أدرك نوبل، من خلال عمله في مصنع عائلته في سان بطرسبرغ والذي واجه الإفلاس لاحقا، الحاجة الملحة لإيجاد بديل أكثر أمانا وموثوقية، فكرس نفسه للتجارب في مختبرات مختلفة، بما في ذلك مختبر الكيميائي نيكولاي زينين في روسيا، قبل أن يضطر للسفر إلى ستوكهولم ليواصل أبحاثه هناك.
جاءت اللحظة الحاسمة عام 1866، حين اكتشف نوبل أن مادة طبيعية مسامية تسمى “التراب الدياتومي”، وهي صخر رسوبي دقيق، تمتلك القدرة على امتصاص النتروجليسرين السائل وتحويله إلى عجينة قابلة للتشكيل وآمنة نسبيا في التخزين والتعامل.
هذا المزيج الثوري هو ما حصل على براءة اختراعه في 25 نوفمبر 1867 تحت اسم “الديناميت”، المشتق من الكلمة اليونانية التي تعني “السلطة” أو “القوة”.
لم يقتصر نجاح الديناميت في كونه مجرد بديل آمن فحسب، بل فتح أبوابا كانت مغلقة أمام التقدم. قبل هذا الاختراع، اعتمدت المشاريع الهندسية العملاقة على البارود، الذي كان أقل قوة وأكثر تعقيدا في استخدامه، ما جعل حفر الأنفاق عبر الجبال أو شق الطرق في الصخور عملية شاقة وبطيئة وخطيرة. مع الديناميت، أصبحت هذه المهام أسرع وأكثر كفاءة وأقل تكلفة.
لم يسترح نوبل على أمجاد هذا النجاح الأول، بل واصل مسيرة التطوير والاختراع، مقتنعا بأن هناك دائما مجالا للأفضل. في عام 1876، قدّم للعالم “البلاستيد” أو “الهلام المتفجر”، وهو نسخة محسنة من الديناميت ذات قوام بلاستيكي. تميز هذا الابتكار الجديد بقوة تفجيرية أكبر ومقاومة للماء، كما أنه لم يفقد فعاليته بمرور الوقت، مما جعله مثاليا للأعمال تحت الماء وفي الظروف القاسية. ثم جاء اختراعه لمسحوق “البالستيت” عديم الدخان في عام 1887، ليكمل سلسلة منتجاته المتفجرة التي اجتاحت الأسواق العالمية، محققةً لألفريد نوبل ثروة طائلة من المصانع التي أنشأها بنفسه أو من خلال تراخيص براءات الاختراع التي منحها للدول الأخرى.
مساهمات نوبل لم تقتصر على الديناميت ومشتقاته. كان عقلا كبيرا لا يكف عن الابتكار، حيث سجل 355 براءة اختراع في مجالات متنوعة كالطب وعلم المعادن والكيمياء وعلم الأحياء. من بين اختراعاته البارزة “كبسولة التفجير” التي استخدمت فتيلا وكبسولة زئبقية لإشعال النتروجليسرين بطريقة أكثر أمنا، ما وسع نطاق استخدام المتفجرات في الأعمال المدنية. كما طور “الجيلاتين المتفجر” بخلط النيتروجليسرين مع البيروكسيلين.
في مجال النفط، قدّم في وقت مبكر حين كان يعمل في شركة العائلة النفطية، طريقة مبتكرة لنقل السوائل باستمرار، وبنى أول خط أنابيب نفط تعمل بالبخار في روسيا، ما خفض تكاليف الإنتاج إلى سبع مرات.
إضافة إلى ذلك، تشمل قائمة اختراعاته، المراجل البخارية ومواقد الغاز وأجهزة التبريد، ما يثبت أن اهتماماته ومواهبه تغطي مجالات علمية وصناعية متعددة.
كان للديناميت وتوابعه تأثير ملموس ومباشر على التطور في تلك الحقبة. لعل أبرز الأمثلة على ذلك هو المساهمة الحاسمة في إكمال نفق غوتهارد في جبال الألب، الذي يبلغ طوله 15 كيلومترا وكان بمثابة معجزة هندسية في زمانه، وكذلك في حفر قناة كورينث في اليونان.
تشير التقديرات إلى أن متفجرات نوبل استخدمت في بناء أكثر من 300 جسر و80 نفقا حول العالم، ما ربط بين المدن والبلدان وسهل حركة التجارة والسفر. في مجال التعدين، أتاح الديناميت استخراج الفحم والنفط والغاز والمعادن بكميات وفيرة وسرعة غير مسبوقة، ما غذى الثورة الصناعية ودفع عجلة الاقتصاد العالمي.
غير أن هذه الإنجازات التقنية الهائلة ترافقت مع مفارقة أخلاقية كبيرة. فبالرغم من أن نوبل قصد من اختراعه خدمة البشرية في أعمال السلام والبناء، إلا أن الديناميت وجد طريقه بسرعة إلى ساحات المعارك والحروب، ما جعل نوبل في نظر البعض “تاجر موت”.
تقول قصة شائعة، إن نقطة التحول في حياته حدثت عام 1888 حين توفي شقيقه لودفيغ، ونشرت بعض الصحف نعيا لألفريد نوبل بالخطأ. إحدى هذه الصحف الفرنسية وصفته بأنه “تاجر موت” أصبح غنيا من خلال اختراع أداة للقتل. يُقال إن هذا الحادث أصابه بالصدمة والقلق من أن يذكرّه التاريخ بهذه الصورة المشوهة، كرجل سهّل الدمار والقتل.
دفعه هذا الشعور العميق بالمسؤولية والرغبة في ترك إرث إيجابي للبشرية إلى اتخاذ قراره الأكثر خلودا. في 27 نوفمبر 1895، وقّع ألفريد نوبل وصيته الأخيرة في النادي السويدي النرويجي في باريس، مكرسا القسم الأكبر من ثروته الهائلة لإنشاء صندوق يتم منح عائده سنويا كجوائز لأولئك الذين “قدّموا أعظم فائدة للبشرية” في مجالات الفيزياء والكيمياء والطب والأدب والسلام.
بهذه الوصية، حول نوبل مسار إرثه من الاختراعات المادية التي يمكن أن تستخدم للبناء والهدم، إلى منارة دائمة تشجع الإبداع والسلام والعلوم. وهكذا، تحول اسم “نوبل” من رمز للقوة المتفجرة إلى رمز أعلى للإنجاز البشري والتفوق الفكري والسلام العالمي، لتبقى ذكراه محفورة في الأذهان ليس فقط كمخترع للديناميت، بل كرجل كرس ثروته من أجل جعل العالم مكانا أفضل.
المصدر: RT
إقرأ المزيد
الفراشات الثلاث ونهاية دكتاتور!
في قلب الكاريبي، حيث تتماوج الجبال الخضراء حول مدينة سالسيدو الصغيرة، ولدت وترعرعت أربع أخوات من عائلة ميرابال. بنات من الطبقة المتوسطة المثقفة آمنت بأن التعليم نور يضئ المستقبل.
الأسلاك الشائكة ومطحنة القهوة!
تخيلوا عالما بلا حدود، سهولا شاسعة تمتد إلى ما لا نهاية، حيث ترعى قطعان الماشية بحرية مطلقة، لا شيء يوقفها أو يحد من حركتها.
لوسي لم تعد جدتنا!
في صباح الرابع والعشرين من نوفمبر عام 1974، فيما كانت الشمس تمد أشعتها الحارقة فوق سهول إثيوبيا القاحلة، حدث ما سيغير فهمنا للأصول البشرية إلى الأبد.
عادت إلى بلادها وشهادة وفاتها في يدها!
تشتهر الفلبين بشواطئها الجميلة وطبيعتها الساحرة، لكنها تحظى بشهرة أخرى أكثر غرابة في جانب خفي: إنها جنة لأولئك الذين يرغبون في استصدار شهادة عن وفاتهم!
شهادة “ديانا” والكبرياء الملكي الجريح!
في مساء العشرين من نوفمبر عام 1995، ظهرت فضيحة متكاملة غير عادية في القصر الملكي البريطاني، كانت عبارة عن مقابلة تلفزيونية ستغير حياة العائلة الملكية بشكل نهائي.